المغني حياة الروح  

Posted by shaimaa haseeb in



المغني حياة الروح

بقلم : أسامة أنور عكاشة


المغني حياة الروح‏،‏ يسمعها العليل يرتاح‏..‏

وتداوي كبد مجروح‏،‏ يحتار الأطبا فيه‏..‏

هكذا تغني شاعر العامية الأعظم بيرم التونسي

علي أوتار حنجرة عبقرية لأم كلثوم‏,‏ عزف عليها عبقري النغم زكريا أحمد
‏ وسمعتها منذ أيام قريبة تأتي إلي مسامعي في ليلة حارة عبر النواف

ذ والشرفات المفتوحة‏،‏ وحين تأتيك أهزوجة صادحة في

ليلة ساجية الصمت لا تتبين فيها غير أصوات المراوح‏,
‏ وهدير أجهزة التكييف القديمة التي تنتزع أنفاسها الأخيرة

بقدرة قادر‏,‏ وينشغل أصحابها بمراقبة الحشرجة الصادرة

وأيديهم علي قلوبهم خوفا من أن يتوقف الصوت ويعلن الجهاز

نهاية عمره الافتراضي‏,‏ وتلفهم الحسرة ويتساءلون عن كيفية قضاء

باقي أيام الصيف‏!‏ حين يحدث هذا تحمد لنفسك أنك لست من أصحاب

المكيفات فتنصت في انسجام وخلو بال إلي الست وهي تغرد من مذياع

مواطن سهران يجاورك المسكن‏,‏ وتدعو الله في سرك ألا يقرر الجار

المجهول فجأة أن ينام ويغلق المذياع ويساورك الندم لأنك تخليت عن آخر

راديو بعد أن اقتنيت أخيرا المرناء

‏(‏ اسم التليفزيون معربا بأمر مجمع اللغة العربية‏),
‏ وركزت ساعات ليلك كلها للجلوس أمامه‏,‏ والليلة قد أصابه العطب

وجاء المهندس ليقرر أن إصلاحه في المنزل غير ممكن

ولابد أن ينقله معه لورشة الإصلاح‏.


وداهمني الملل‏,‏ وحين قررت أن أخرج إلي المقهي تذكرت

أنني لم أرتب مع أفراد الشلة وقد لا أجد منهم أحدا وتصبح

ليلة القهوة قاحلة جدباء بلا طاولة الزهر‏,‏ أو رقعة الدومينو‏,‏

ومن ثم غلبني الكسل وقررت أن أستعيض عن جلسة المقهي

بجلسة أخري في شرفتي وتحت مصباحها المضيء

أقرأ ذلك الكتاب القديم المصفر الذي عثرت به وشيكا

ضمن متعلقات تركها سيدي الوالد الراحل‏,‏ لكني‏,‏ وبعد ثاني

صفحة في الكتاب المعنون في سبيل التاج

مصطفي لطفي المنفلوطي‏,‏ توقفت عن القراءة‏,‏

إذ تناهي إلي صوت أم كلثوم‏:

يبوس الجدم ويبدي الندم علي غلطته في حق الغنم،



ثم ذلك الشطر الذي يتحدث عن

فروق السلوك والفهم بين الإنسان والحيوان‏:

رعينا الغنم وسجناها‏ ‏ وكم بالعصا ضربناها


لجينا الغنم تحب الطرب ولو تنشتم ولو تنضرب‏‏


فلا كبشها سريع الغضب‏

ولا فحلها جليل الأدب‏

سلام الله علي الأغنام


ياسلام‏!‏ هذه الأهزوجة المرحة خفيفة الظل

تغنيها صاحبة الرباعيات‏,‏ والأطلال‏,
‏ وهذه ليلتي‏,‏ وهجرتك‏,‏ وحاسيبك للزمن‏,‏ وقصة الأمس‏,‏

والذكريات، وو إلي كل التحف الغنائية



الخالدة التي تبكينا وتشجينا وتطربنا حتي اليوم والغد وما بعده‏

وأسلمتني الذكريات إلي تداعيات حزينة

عكرت صفو ليلتي كان أولها سؤالا مريرا‏:
‏ حسنا‏،‏ وماذا جري بعد أم كلثوم؟

لقد أمتعتنا طوال ثلاثة أرباع القرن
‏‏ امتلكت فيها آذاننا‏,‏ ومجامع قلوبنا‏,‏ لكنها رحلت‏,
‏ وكان محتوما أن ترحل كما يرحل كل البشر‏

إرادة الله ومشيئته،ورحل بعدها محمد عبدالوهاب‏,
‏ وقبلهما عبدالحليم حافظ‏,‏ وفريد الأطرش‏,‏ ومحمد فوزي‏,
‏ وسائر أفراد ذلك الجيل من عظماء دولة الطرب
‏‏ فمن بقي علي الساحة؟

من يتولي الآن مسئولية تغذية أرواحنا بالطرب

الراقي‏‏ بالكلمة الجميلة‏,‏

واللحن البديع‏,‏ والصوت القادر الشجي؟

إن هناك مطربين يجيدون الغناء‏,‏ ويملكون الموهبة‏,‏

ويستطيعون ملء فراغات كثيرة‏,‏ قد لا نجد أم كلثوم أخري‏,‏

وقد نفتقد من يضارع عبدالوهاب‏,‏ وقد لا يتحفنا القدر بصوت عبقري

مثل صوت عبدالحليم حافظ‏,‏ لكننا مازلنا نعاصر الكبار‏,
‏ مازلنا ننتظر أي شطرة تغنيها قمرية الأرز فيروز العظيمة‏,‏

ومازالت آذاننا تبحث في كل رفة نغم تتسرب

عبر الأثير لجبار الطرب الأصيل وديع الصافي‏,‏

وأمير القدود الحلبية صباح فخري‏,
‏ ومازلنا نبتهل إلي الله أن يبقيهم بيننا حتي

تقدم لنا المقادير ما يعوضنا عن الراحلين بالجسد‏,

أصواتهم تشجينا‏,‏ وتلون أيامنا بالبهجة‏,
‏ والمتعة‏,‏ والشجن‏!‏ وبنظرة سريعة نكتشف

علي الفور وجود احتياطي تكتيكي ممثلا في أصوات

مهمة وجدت علي مسرح الطرب المصري الآن‏,
‏ فأنا مثلا أري في الفتي الرائع محمد منير مشروعا

قابلا لأن يكون عبدالحليم الجديد‏,‏ وأظن أنه لا يحتاج

لكي يكتمل إلا مغامرة جسورة لمنير لكي يغني لكل المصريين

فلا يقتصر علي النغمة الجنوبية وقعا وإيقاعا‏,
‏ لماذا لا يغني للفلاحين في الشمال‏
‏ والسواحلية‏.. وأبناء الطبقة الوسطي في المدن


وإذا كان منير يعد حاليا صاحب مساحة لا يقترب منها

ولا يتحداها مطرب غيره‏,
‏ فهناك في ركن مقابل يقف مجموعة من المطربين الحقيقيين

ذوي الأصوات المتمكنة‏,‏ مثل علي الحجار‏,‏

ومحمد الحلو‏,‏ وهاني شاكر‏,‏ ومدحت صالح من الرجال‏,‏

وشيرين عبدالوهاب‏,‏ وأنغام‏,‏ وآمال ماهر‏,‏ وغادة رجب‏,‏

ومها البدري‏,‏ كلهم أصحاب مواهب كان من الممكن

أن تحدث فارقا حقيقيا في المشهد الغنائي الحالي‏،‏ لولا‏...‏


هل كان الكسل سببا؟ أو الالتهاء عن العمل بأمور أخري

أغلبها شخصي؟ أم تراه اليأس والانسحاب التدريجي

متعللا بوجود مناخ عام فاسد يعلي من شأن قليلي الموهب

ة الذين يتقافزون علي موسيقي الصخب والضجيج‏,
‏ والكلمات السوقية الخالية من المعني‏,‏

مما يجعلهم علي وش القشدة وبالتالي يلتهمونها



ويتحولون بالنسبة للجماهير إلي مطربي الفترة الذين

يملكون مفاتيح الشباب فيعزلونهم عن الموهوبين الحقيقيين؟


صرعة أخري سيدت الأوضاع المقلوبة‏,‏ هي تجارة

الكليبات والكاسيت التي أضعفت كثيرا من أهمية الصوت‏:
‏ قوته ـ خبرته ـ عربه ـ مقامات فصار سهلا أن يغني أي شخص‏,
‏ خصوصا البنات الجميلات ذوات القدرة علي التعري والتلوي

‏(‏ الصوت آخر ما يجب الحكم عليه أو قياسه‏)



ولكي يتاح للفنان أن يوفق في الاختيار فلابد من وجود مناخ

عام تزدهر فيه الفنون والثقافة‏,‏ ويكون البلد كله في حالة نهضة

ولا أراها مصادفة أن يحدث هذا التوافق الواقع بين القمم الفنية التي قدمت

روائعها في عقد الستينيات من القرن الماضي‏,‏ الفترة نفسها التي شهدت

مدا ثقافيا غير متكرر‏:‏ أم كلثوم‏,‏ وعبدالحليم‏,‏ ونجاة‏,‏ ورشدي يصدحون

بأجمل أغاريدهم‏,‏ وفي الآن نفسه يقدم نجيب‏,‏ وإدريس‏,‏ والحكيم‏,‏ ووهبة‏,
‏ وحقي‏,‏ والشرقاوي شوامخهم النادرة‏,‏ ويقدم لويس عوض‏,‏ وعلي الراعي

‏,‏ ورشاد رشدي إبداعاتهم النقدية والفكرية‏,‏ وعلي خشبات مسرح الدولة

نشاهد الروائع الإغريقية لإيسخليوس‏,‏ ويوروبيدس‏,‏ وسوفوكليس


‏(‏ أوديب‏,‏ وحاملات القرابين‏,‏ واجاممنون‏),‏ والبريختيات الكبري

‏(‏ دائرة الطباشير القوقازية‏,‏ والإنسان الطيب‏)
‏ بجانب الروائع الإسبانية للوركا‏,‏ وكالديرون‏,‏ وبايخو‏,‏ والإيطالية‏‏ إلخ‏


في هذه الدائرة‏:
‏ هل يصعب أن نغني غناء صحيحا‏،‏ ونطرب للطرب الراقي الأصيل؟

This entry was posted on الخميس، 28 مارس 2013 at 4:07 م and is filed under . You can follow any responses to this entry through the comments feed .

0 التعليقات

إرسال تعليق

قول للحجار كلمه